الرسوم المسيئة وغرق العبارة حدثان ذوا دلالة
محمد الحرز * - « صحيفة اليوم » - 18 / 2 / 2006م - 9:18 م
هناك حدثان شهدهما الوطن العربي خلال الأسابيع الفائتة، الأول غرق العبارة المصرية التابعة لشركة سلام المصرية في مياه البحر الأحمر, والثاني حرق السفارة الدانماركية في دمشق وبيروت احتجاجا ضد الرسوم المسيئة للرسول عليه الصلاة والسلام، وهما حدثان يشكلان ارتباطا وثيقا لأزمة قيمة الإنسان العربي في وطنه من جهة، وأزمة علاقته بالعالم من جهة أخرى.
إن توصيف الحادثتين بالأزمة فيه مؤشر على محاولة فهم ما يجري من أحداث، وأهم من ذلك رمزية دلالاتها التي تعكس بصورة أو بأخرى صورة واقعنا العربي، وكذلك صورة تفاعله مع شعوب العالم المختلفة، لذلك لن أركز في هذه المقالة على التفاصيل، ولكن سأذهب بحديثي عن السؤال الأكثر أهمية في ظني فيما يخص النظر في مثل تلك الأحداث, وهو كيف نقيم ونحلل مثل هذه الأحداث والمواقف حتى يمكننا نوعا ما الخروج برأي عقلاني وموضوعي بعيدا عن العاطفة وردود الأفعال؟ وللإجابة ينبغي الوقوف أولا على هذين الحدثين، ومن ثم استخلاص المواقف للدلالة على الأزمة التي أشرنا لها أعلاه.
لقد قامت الصحيفة الدانماركية بالاعتذار ثم لحقها رئيس وزرائها الذي أوضح أن حرية الصحافة مكفولة في الغرب، ولا تملك الحكومة أي سلطة ضغط عليها، وهذه في ظنه إحدى ميزات الديمقراطية الغربية التي يفاخر بها الغرب في كل شاردة وواردة. ولكن هل سوء الفهم الذي يرفعه الغرب كشعار هو حقيقة تنطبق على واقع العلاقة بينهم وبين المسلمين؟ لا أظن أن الأزمة مجرد سوء تفاهم فقط، فحينما يدعي الغرب, والممثل هنا في الصحافة والإعلام ورجال السياسة والمفكرين التابعين لهم، بأنهم لم يقصدوا الإساءة للرسول، ولا إيذاء مشاعر المسلمين، ولكنها الحرية التي هي سمة من سمات المجتمع الغربي، والتي لا تعرفونها أنتم أيها المجتمعات العربية.
هكذا بهذه الطريقة يرى الغرب سوء التفاهم، ولكن أليس ذلك مجرد اختزال لأزمة العلاقة بيننا وبين الغرب؟ وكذلك هو انحراف عن حقيقة ما يجري في العالم من تحولات على مستوى العلاقات السياسية والاقتصادية بين الدول. لقد تحولت الديمقراطية الغربية إلى نوع من العقيدة الإيديولوجية, وليست إثارة قضية الحجاب في فرنسا منذ أواخر الثمانينات سوى الدليل الواضح على ما وصلت إليه الحرية في النظام العلماني الغربي الفرنسي بالتحديد إلى طريق متصلب ومتكلس يحتاج فيه إلى بلورة رؤية جديدة وفق المعطيات التي استجدت على المجتمعات الغربية، ومن أهم هذه المعطيات انتشار المسلمين كمواطنين في تلك البلدان مما يحتم على أصحاب النخب السياسية والفكرية فيها إعادة صياغة مفهوم الخصوصية والهوية والدين والعقيدة.
وبالفعل رأينا كيف قامت بعض النخب المثقفة الغربية في نقد مفهوم الحرية الغربية سواء من خلال نقدها قانون رفض الحجاب في المؤسسات التعليمية العلمانية بدعوى الحفاظ على الطابع العلماني للجمهورية، وكأن الحجاب عندما تلبسه الفتاة في المدرسة يهدد الكيان العلماني لفرنسا, وهذا بالضبط ما أكده الفيلسوف بول ريكور, وكذلك الفيلسوفة كانتو سبراب في نص بليغ لهما حسبما ينقله المفكر الزواوي بغوره في إحدى مقالاته, حيث يشيران الى أن السؤال المطروح هو: هل يشكّل الحجاب فعلا خطرا ويفسد التعليم أو يدخل عليه عنصر اضطراب? هل يمكن أن نثبت بشكل عقلي أن قطعة من القماش يمكن أن تكون لها آثار على التعليم العلماني? دون شك فإن الجواب سيكون بالنفي, وبالتالي فإن المطروح للنقاش ليس الحجاب كعلامة دينية, ولكن كعنصر تهديد للجمهورية. وبما أنه لا يمكن إثبات أن الحجاب يهدد فعلا الجمهورية, لأنه لو كان كذلك لتم منعه, كذلك في الحياة العامة, فلماذا اقتصر الأمر على المدرسة لماذا لا يمنع في الشارع؟
يذهب ريكور وكانتو سبراب, إلى أنه من الممكن أن نكون ضد الحجاب, ولكن يجب أن نكون أكثر معارضة لإقصاء الطالبات بناء على هذا السبب. إن التسامح الديني, هو مبدأ مؤسس لمجتمعاتنا, وإن الحد من الحرية يتم وفقًا لمخاطر حقيقية, وليس بناء على توقعات, أو انحرافات ممكنة, وإن العلمانية, تعني الالتزام بالضمان لكل فرد إمكان التقدم والرقي من خلال انتماءاته وأصوله, والمدرسة يمكن أن تؤدي هذه المهمة لا أن تفرضها عليهم مسبقا.
صحيح أن الحجاب بشكله ومعناه يحمل علامة التمييز بين الإناث والذكور, فهل من أجل الحد من هذا التمييز أن نمنع الحجاب ومعه حامله?! ألا نعرف أن المدرسة هي المجال الأساسي للبنات ليتقدمن ويتفتحن? وإن المدرسة هي المجال الأساسي الذي يتعلمن فيه قيمة المساواة. صحيح أن الحجاب يبين أنهن يخضعن للتمييز, ولكن الأساتذة وبقية التلاميذ يعاملهن معاملة المساواة. وإن إدراكهن هذه القيمة سيربطهن أكثر بالتعليم وقيمه. وأما منعهن, فهو منع لهن كذلك في الالتقاء بهذه القيم.
كما يجب إقرار أمر آخر, وهو أنه يجب ألا نحرر الناس ضد إرادتهم, أو أن نعتقهم ضد قناعتهم, فهنالك مَن يؤمن بالحجاب, وليس مجبرا عليه أو يريد أن يتميز به, إن مهمة المدرسة أن تقدم معنى المساواة وأن تحقق الحرية. ومن المفارقة أن تصبح المدرسة, وهي الميدان الأساسي لحرية الطالبات, وسيلة تفرض عليهن التخلي عن خياراتهن الدينية. أو من خلال نقدها الأسس الفكرية والفلسفية التي قامت عليها الحرية الغربية كما فعل الفيلسوف كارل بوبر في كتابيه "المجتمع المفتوح وأعداؤه" و(بؤس التاريخانية) الذي أكد فيهما على ضرورة أن تقوم الديمقراطية على الحرية الثقافية للناس واحترام لغاتهم وأديانهم وتقاليدهم، وكذلك الدفاع عن المعوزين والمعاقين خصوصا الأطفال وحمايتهم من عنف وجرائم الكبار.
هذا السجال الدائر في الفكر الغربي لا يحظى بتغطية إعلامية واسعة لأنه لا يعكس سياسات المصالح الكبرى للدول المهيمنة. ولكن من جهة أخرى ينبغي علينا نحن العرب أن نفتح ثغرة تفضي بنا إلى المشاركة الفعالة في مثل هذه السجالات لأنها تعزز موقعنا كفاعلين في إدارة نظام القيم الذي يحكم العالم الحالي، وكذلك تقرب وجهات النظر وتزيح الثقل التاريخي المتراكم من الاحتقان النفسي والثقافي، ولا يتم ذلك بالعنف كما رأينا في حرق السفارتين التي نجد مغزاهما السياسي أكثر وضوحا على مغزاهما الديني، ولكن يتم في إطار الفهم العميق المتبادل بين الثقافات، وفي جو بعيد كل البعد عن التسييس الثقافي إذا أمكن ذلك، وهنا في اعتقادي مربط الفرس!.
أما حادثة العبارة المصرية فهي دلالة أخرى على البون الشاسع بين القيمة الإنسانية المتفرعة من مفهوم الحرية عند الغرب وبين قيمته عندنا نحن العرب، فبينما النخب المفكرة الغربية أخذت تسد الثغرات والمساوئ التي خلفتها ديمقراطيتهم جراء الممارسة الطويلة لها، لم نجد نحن العرب للآن الطريق الذي يحفظ كرامة الإنسان العربي ويصون حقوقه ويحافظ على قيمة حياته كإنسان.
أليس في ذلك مفارقة كبرى عندما نطالب الآخرين بأن يحترموا كرامتنا وتقاليدنا وعقائدنا!؟
كاتب سعودي - الأحساء
0 Comments:
إرسال تعليق
<< Home