بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين الرحمن الرحيم مالك يوم الدين اياك نعبد و اياك نستعين اهدنا الصراط المستقيم صراط الذين انعمت عليهم غير المغضوب عليهم و لا الضالين امين اسألكم بمن تعبدون ان تدعوا بالمغفرة و ان تقرؤا الفاتحة على ضحايا العبارة

٣/٠٢/٢٠٠٦

http://www.rosaonline.net/SABAH/article.asp?id=1749

ماذا يموت المصريون ناقصين عمر
أكتب هذه السطور من واشنطن والخبر الذى تصدر نشرات الأخبار لمدة أيام على جميع القنوات التليفزيونية هو خبر العبارة التى غرقت فى البحر الأحمر، وكنت قبل رؤية هذا الخبر بدقائق أتابع على شبكة الإنترنت هذا الصراع الوهمى الذى له ضجيج حول مستقبلنا، فهناك من يجلسون فى غرف وثيرة ويفكرون فى المستقبل كأنه مسرحية خرافية سيتم تأليفها على مزاجهم الشخصى، وهنا قوم آخرون مثلهم مثل الشاب المشدود عصبيا بغير حد، وهو الذى أمسك بخناق قبطان العبارة المصرية التابعة لنفس الشركة التى تملك العبارة الغارقة، وكان القبطان مكفهرا، وهو يكرر أن حمولة عبارته هى ألف وثمانمائة إنسان. ولا يستطيع مخالفة أوامر الشركة المالكة. وأيا كان السبب، فهناك شركة تملك العبارة، وما قيل عن تلك العبارة يكشف عيوبنا جميعها، فهى تنتمى بالملكية لشركة مصرية، لكنها لا ترفع العلم المصرى خوفا من التفتيش عليها، حيث إن عمرها الافتراضى قد انتهى وممنوعة من الإبحار فى نظر الاتحاد الأوروبى، ولكنها كانت كالفرخة المسمومة التى يتكدس الذهب لدى أصحابها، أما حياة المصريين الذين تكسبوا - ولا أقول سرقوا- منهم الثروة، فهؤلاء المصريون ليس لأى منهم أدنى قيمة على الإطلاق، بدليل أن المسئولين فى الشركة أمروا قبطان العبارة الثانية المملوكة لنفس الشركة بألا يلتفت إلى العبارة الغارقة. ويمكن أن تكشف لنا حكاية العبارة عن أسلوبنا فى الحياة خلال أكثر من نصف قرن من الزمان .. ففى ما قبل 23 يوليو، كان هناك تقديس بالكلمات دون الأفعال لما كنا نسميه نحن المخضرمين «الجلاء التام أو الموت الزؤام» وكان الشعار الاجتماعى على لسان أحمد حسين مؤسس حزب مصر الفتاة «أين الغذاء والكساء يا ملك النساء؟» «وطبعا كان السؤال موجهاً إلى جلالة الملك فاروق الذى كان مشغولاً بفضائحه الخاصة، وبعدم قدرته على إنجاب ولى للعهد» وحين قامت الثورة، وتحقق جلاء الإنجليز، وتم بناء الكثير من المشاريع التى تهتم بأغلب جموع المصريين لم يمنع ذلك من وجود مقاولى الأنفار يرددون ما يبلغه لهم صناع الشعارات التى يمكن أن تكون إحدى البوابات التاريخية لميلاد هذا الاضمحلال الخلقى الذى عشناه فى الانتخابات الأخيرة، حيث كان هناك موردو أنفار للتأييد مقابل وجبة طعام أو مبلغ مالى. ومازلت أذكر أول كارثة لغرق مركب صغير فى النيل اسم المركب (دندرة) فى أواخر الخمسينيات، واهتزت الدنيا كلها من أجل ذلك، وصدرت من القوانين ما يحمى الناس وهى تركب المراكب النيلية، ولم نكن فى حاجة إلى قوانين تحمى الناس وهم يركبون البحر، حيث إن المراكب البحرية كانت تتبع الدولة التى ترعى حياة أبنائها، فوق أية أرباح محتملة. ولا أحد بقادر على إنكار ما فعلته الدولة برؤسائها الثلاث ناصر والسادات ومبارك من أجل التنمية ومحاولة توفير حياة مقبولة، فقد كانت هناك خطط تنمية، وكان هناك السد العالى، وكانت هناك البنية الأساسية بعد أن فرغت مصر من الحروب المتتالية. ولكن للأسف كنا مع كل تقدم فى التاريخ نجد قيمة الإنسان وهى تتضاءل تدريجيا، بمعنى أن المصرى فى الخطب والتصريحات وخطط الحكومات هو أغلى الكائنات، ولكنه فى الواقع يبدو كائنا زائدا على الحاجة، لأن الزيادة السكانية تفوق التصور، ولأن أسلوب إدارتنا لحياتنا جعلنا نقبل العديد من الكوارث الصامتة التى لا تعلن عن نفسها إلا بحادث مثل حادث حريق القطار أو حادث سقوط عمارة على رؤوس سكانها أو حادث غرق عبارتين فى البحر الأحمر عبر سنوات قليلة، فحريق القطار هو مسئولية الدولة التى تناقصت إمكاناتها المادية، بينما توحش بعض من رجال الأعمال الفارين بنقود الودائع إلى الخارج، ومسئولية سقوط عمارة فوق سكانها هو شهادة حية لا على فساد المحليات فقط، ولكن لأن منطق عشق الثروة يفوق عندنا منطق عشق الحياة وقدسيتها، ونفس المسألة فى حادثة غرق العبارة سالم والعبارة السلام. ولو أن هناك قوانين تحمى البشر من عدم التلاعب لما كان من الممكن أن تسير مثل هذه العبارة فى البحر على الإطلاق. ولا يتوقف مسلسل الكوارث الصامتة الذى يجرى أمام أعيننا ولكننا نقبله للأسف، ودون أن يكون لتلك الكوارث صدى كصدى غرق العبارة، وهو غرق التعليم فى قصقصة قدرات الطالب، وتمثيلية الأجر الهزلى الذى نعطيه لطبيب الوحدة الصحية، ونطالبه بصيانة حياة أهل الريف، ثم الوعظ والإرشاد ضد الزواج العرفى، رغم أن بحث الشاب عن شقة يصنع فيها أسرة هو من ضرب المستحيل، لأنه لا يملك عقد عمل مع أية شركة يعمل بها، حيث يفضل أصحاب العمل هذه الأيام أن يقوموا بتشغيل الشباب باليومية، وترفض العديد من شركات القطاع الخاص تثبيت العاملين بها وتجبرهم على العمل «ستين ساعة أسبوعيا» ويمكن للوزيرة عائشة عبد الهادى أن تنزل لتشترى سيراميك أو أدوات مطبخ أو حتى ملابس من عند أى متجر مثل «التوحيد والنور» وستجد العجب التلاعب يفوق الخيال فى مسألة التأمينات الاجتماعية، وهو عجب يفوق الصيام فى رجب. ثم تنفجر الكوارث الصامتة فى وجوهنا نتيجة اتساع عدم احترام القانون، فيهاجر- على سبيل المثال - مئات الآلاف من المصريين بحثا عن رغيف خبز فى الخليج، ثم يموت بضعة مئات منهم مثل الذين ماتوا فى العبارة، وهم من البشر الذين يتناسلون دون استطاعة المجتمع الذى ينتمون إليه أن يصون لهم أبسط الحقوق. ثم نعاود الغرق فى التفكير فى مستقبلنا عبر الصراعات بحبر الصحافة المستقلة والقومية، دون أن تكون هناك بوصلة هادية متفق عليها من الجميع. إن الصورة الكاملة التى نعيش فيها، تزدحم بأفكار ونظريات، بعضها يرفع نظرية الليبرالية، وبعضها الآخر يغلبه الحنين إلى الاشتراكية، والبعض الثالث يريد أن يلغى كل التاريخ المعاصر ونعود إلى أيام جلالة الملك فاروق، والبعض يريد أن نعود إلى عصر الخلافة العثمانية، أو الدولة الدينية. أيها السادة نحن فى حاجة إلى بوصلة هادئة قادرة، لا تنتمى إلى أيه فلسفة سياسية، ليبرالية أو اشتراكية، أو ملتحفة بالدين، بل بوصلة تقدس الإنسان، هل هذا صعب؟ هل هذا مستحيل ؟ أقول ذلك كيلا يقف مصرى أمام أى أجنبى مثلما وقفت أمام عدد من الأمريكيين الذين سألونى : لماذا يموت المصريون «ناقصين عمر» ؟ ولم أجد إجابة. منيــر عـامــر